يعد علم تحقيق النصوص أحد العلوم التي تُعنى بدراسة التراث
المخطوط، والعمل فيه يتضمن ثلاثة علوم:
أولا: علم المخطوطات أو علم الكوديكولوجيا Codicologie وهو "يعني عند القدماء دراسة كل ما يتعلق بالمخطوطات من
كتابة، وصناعة، وتجارة، وترميم، وما إلى ذلك، ويعني في العصر الحديث دراسة المخطوط
كقطعة مادية، مع العناية بكل ما يحيط بالمتن من حواش، وتعليقات، ووقفيات،
واستطرادات، وتَمَلُّكات، وإجازات، وما ماثل ذلك"([1]).
والكوديكولوجي
Codicologie مصطلح غربي حديث، من وضع العالم الفيلولوجي الفرنسي ألفونس دان A. Dain، أو شارل سمران Ch. Samaran([2])، ودراسة هذا العلم مهمة
بالنسبة إلى محققي النصوص، لأن النص من دونه يكون به ثمة قصور في فهم الإشارات
التي يقدمها.
ثانيًا: علم فهرسة المخطوطات وهو علم قائم بنفسه، ويقول د/ صلاح
الدين المنجد "إن فهرسة المخطوطات هي الخطوة الأولى نحو دراسة المخطوطات
واكتشاف ما فيها"([3]).
وقد بدأت فهرسة المخطوطات العربية في أوربا على أيدي الشرقيين العرب، "فأول
فهرس صدر في أوربا هو فهرس مخطوطات فلورنسة في إيطاليا، الذي وضعه راهب مسيحي من
لبنان اسمه اسطفان عواد السمعاني في سنة 1742م"([4]).
وعلى الرغم من ذلك كان الغربيون سبَّاقين في فهرسة المخطوطات وتقدموا فيها تقدمًا
كبيرًا، وقام المستشرقون بوضع فهارس متقنة للمخطوطات العربية في أوربا كلها.
ثالثًا: علم تحقيق النصوص: وهو "العلم الذي يبحث فيه عن قواعد نشر المخطوطات، أو هو دراسة قواعد نشر
المخطوطات"([5]).
فهو علم لأن له نظرية وخطة وإجراءات، كما أن التطبيق يجعل من التحقيق صناعة، وهو
أيضًا فن يكتسب من كثرة التعامل مع النصوص.
التحقيق في اللغة: يوجد في مادة حقق، فحقّه وحققه: صدّقه،
وحقق الرجل إذا قال هذا الشيء هو الحق، كقولك صدق، ويقال أحْقَقتُ الأمرَ إحْقاقا
إذا أحكمته وصححته، وتقول حققت الأمر أحققته إذا كنت على يقين منه، وكلام محقق أي
رصين([6]).
التحقيق في الاصطلاح: لم تُستعمل كلمة "تحقيق"
قديمًا بمعناها الاصطلاحي المتعارف عليه في العصر الحديث، واستعمل العرب القدماء
كلمة "تحرير" للدلالة على التحقيق وتحريرهم لعدة نسخ، واتسعت دلالة
المصطلح حديثًا لكي يصبح مصطلحًا منضبطًا ومتداولا ومتفقًا عليه عند الباحثين.
وكلمة تحقيق ترجمة لكلمة (Critique) الفرنسية،
ولكلمة (Criticism) الإنجليزية([7])،
فهذا العلم عند الغربيين يسمى نقد النصوص Texts Criticism، ويطلق عليه أيضًا الدكتور أيمن فؤاد سيد: علم "النشرات
النقدية"([8]) Criticism editions، كما أصبح يُطلق الآن على
الكتب المحققة اسم نشرات نقدية. وهذا المصطلح "نقد النصوص" أو
"تحقيقها" استحدثه المستشرقون في القرن التاسع عشر عندما أصبح تحقيق
النصوص علمًا له قواعد وأصول. والمقصود بمصطلح Criticism في معجم مصطلحات الأدب: "الفحص
العلمي للنصوص الأدبية من حيث مصدرها وصحة نصها وإنشاؤها وصفاتها وتاريخها"([9]).
ويرى د/ فخر الدين قباوة أصالة مصطلح
التحقيق ووجوده في التراث العربي، وأن العرب القدماء استخدموه بدلالته الحديثة،
وأنه ليس ترجمة لما جاء بالإنجليزية والفرنسية، ويسوق على ذلك دليلًا من رسائل
الجاحظ([10])،
وهو قوله: "إنه لم يخل زمن من الأزمان فيما مضى من القرون الذاهبة، إلا وفيه
علماء مُحِقّون، قد قرؤوا كتب من تقدمهم، ودارسوا أهلها ...، فمخضوا الحكمة وعجموا
عيدانها، ووقفوا على حدود العلوم، فحفظوا الأمهات والأصول ...، ولهم حساد ومعارضون
من أهل زمانهم... واتخذهم المعادون للعلماء المُحِقّين عدة يستظهرون بهم عند
العامة"([11]).
غير أنه يمكن التبين أن كلمة "تحقيق" لم ترد في هذا النص في صورتها
المستخدمة حاليًا للدلالة على هذا العلم الذي نتحدث عنه، ويمكن أن نستدل منه على
وجود العلم في التراث العربي وليس على وجود المصطلح.
ويعرّف الأستاذ عبد السلام هارون التحقيق بأنه "بذل عناية
خاصة بالمخطوطات حتى يمكن التثبت من استيفائها لشرائط معينة. فالكتاب المحقق هو الذي
صح عنوانه، واسم مؤلفه، ونسبة الكتاب إليه، وكان متنه أقرب ما يكون إلى الصورة
التي تركها مؤلفه"([12]).
وتستخدم د/ عائشة عبد الرحمن مصطلح (التوثيق) للتعبير عن معنى
التحقيق، فتقول: "معنى توثيق النص أن يكون وثيقة تاريخية صحيحة النسب إلى
مؤلفها وعصرها، لتكون مادة معتمدة للدرس في كل موضوع يحتاج إلي هذا النص، بما
تعطينا هذه الوثيقة من معجم ألفاظ العصر والمؤلف، ودلالاتها، وعقلية صاحبها ومزاجه
والمناخ الفكري والاجتماعي لبيئتها"([13]).
ثم تفرق د/ عائشة عبد الرحمن بين نوعَيْن من التوثيق؛ وهما: توثيق المخطوط، وتحقيق
المتن، وتعرف توثيق المخطوط بأنه: النظر في أصالة المخطوط وصحة نسبه واتصال سنده
إلى مؤلفه، وتعرف تحقيق المتن بأن مجاله فحص المتن للتحقق من سلامته بكونه على ما
صح من نص المؤلف في الأصول الموثقة([14]).
واستخدم د/ محمد مندور- وهو من أوائل الذين كتبوا في علم
التحقيق- كلمة (ناشر) للدلالة على من يقوم بعملية التحقيق([15]).
كما يطلق بعض المحققين على أنفسهم مصطلحات أخرى غير محقق وموثق وناشر، فيكتبون على
أعمالهم: صححه، أو قرأه، أو عارضه بأصوله، أو اعتنى بتوثيقه، أو شرحه، أو ضبطه
وعلق عليه، وذلك تحرجًا في استخدام لفظ التحقيق لما فيه ادِّعاء لليقين([16]).
أصالة
علم التحقيق في التراث العربي:
هناك فريقان من العلماء؛ فريق يقول بأصالة علم التحقيق في
التراث العربي منذ القرون الأولى، وفريق يقول بأن الفضل كله يرجع إلى المستشرقين
في إرساء قواعد علم تحقيق النصوص، والفريق الأول أكثر حماسًا لرأيه، ويستند إلى
أدلة وبراهين من التراث العربي، يحاولون عن طريقها إظهار جذور علم التحقيق في
التراث العربي، فيقول د/ أيمن فؤاد سيد: "عرف العلماء العرب القدماء ما نطلق
عليه اليوم التحقيق، بما اتَّبعوه من قواعد انتهت بهم إلى ما أثبتوه من علوم
الحديث عن طريق إثبات صحة السند وعلم الجرح والتعديل، وما قام به علماء اللغة
والشعر من توثيق للنص القديم، ومن التثبت عن صحة نسب النص الذي يعتمدون عليه إلى
قائله"([17]).
ويقول د/ رمضان عبد التواب الذي يعد من أكثر المدافعين عن هذا
الرأي: "حين عمّت (الوجادة)([18])
في العصور الوسطى الإسلامية، رأى العلماء أنه لا مناص من وضع القواعد لضبط
المؤلفات وتصحيحها، وكيفية كتابتها على أسس واضحة في الضبط بالشكل واستخدام علامات
مختلفة لإصلاح الخطأ أو تعديل العبارة أو حذف بعض أجزائها أو إضافة جديدة إليها،
وعمل الرموز المفهمة للاختصارات في أسماء العلماء وأسماء الكتب، وغير ذلك من
القواعد والاصطلاحات التي لا بد منها لضبط الكتب وتصحيحها. وتعد هذه القواعد
ودراستها في غاية الأهمية بالنسبة لنا الآن، لأنها تلقي أضواء كثيرة على قراءة
تراثنا المخطوط في تلك العصور، كما أنها تحمل في طياتها بذور علم تحقيق النصوص بمعناه
الحديث"([19]).
وقد ساق الدكتور رمضان عبد التواب دلائل كثيرة من التراث العربي في مسائل عدة من
قواعد تحقيق النصوص ومنها: المقابلة بين النسخ، وإصلاح الخطأ، وعلاج السقط، وعلاج
الزيادة، وعلاج التشابه بين بعض الحروف، وصُنع الحواشي، وعلامات الترقيم، والرموز
والاختصارات.
ونعجب عندما نجد المستشرق برجشتراسر في كتابه "أصول نقد
النصوص ونشر الكتب" في سياق حديثه عن مقابلة النسخ؛ يؤكد أن العرب قد عرفوا
المقابلة منذ فجر الحضارة الإسلامية، واعتبروها شيئًا أساسيًا في أدب الترجمة في
القرن الثالث للهجرة، ويشير إلى أن أول استخدام للمقابلة كان في عصر النبي- صلى
الله عليه وسلم- عندما كان يقابل سور القرآن الكريم، وأن النبي قابل القرآن الكريم
على جبريل مرتين في عامه الأخير، كما يشير إلى أن المقابلة في العصور الإسلامية
الأولى كانت مقارنة دقيقة لنسخة بعينها مع المخطوط الذي اُنتسخت منه هذه النسخة،
أو مع مخطوط آخر للكتاب نفسه، وأشار إلى أن العرب كانوا يعدّون أفضل المقابلات هي
التي كانت تتم تحت إشراف عالم([20]).
وما ساقه برجشتراسر إنما يدل على أنه لم يستمد قواعد تحقيق النصوص من التراث
الإغريقي فقط وإنما أيضًا من التراث العربي، وهو اعتراف ضمني بأن المستشرقين لم
يبتكروا هذا العلم، وأنهم ليسوا أصحاب الفضل الأول والأخير في ابتكاره.
أما الفريق الآخر فيتقدمه الدكتور صلاح الدين المنجد الذي ينسب
كل الفضل للمستشرقين في وضع قواعد تحقيق النصوص، وما كتبه الدكتور المنجد في قواعد
تحقيق المخطوطات ما هو إلا صياغة مقننة لما تعلمه في فرنسا، ونستطيع رؤية ذلك
بوضوح عندما نقارن ما قدمه الدكتور المنجد في كتابه "قواعد تحقيق
المخطوطات" مع ما قدمه الفرنسيان بلاشير وسوفاجيه في كتابهما "قواعد
تحقيق المخطوطات العربية وترجمتها"، فالدكتور المنجد تأثر بهما ولم يذكر في
كتابه أي إشارة لقاعدة واحدة من قواعد التحقيق في التراث العربي، على عكس برجشتراسر
الذي أنصف التراث العربي. والدكتور صلاح الدين المنجد يميل إلى المنهج الاستشراقي
في تقييد النص وضبطه، ويوجه القول إلى معارضيه من أصحاب الرأي الأول: "على
ناشري النصوص من العرب اتِّباع الطريقة العلمية التي يتبعها المستشرقون،
والاطِّلاع على قواعدها واقتباس الجيد منها، ولكن الذين فعلوا ذلك قلائل"([21]).
ولا ينكر كل من يتَّخذ موقفًا موضوعيًا
فضل المستشرقين في إحياء التراث العربي، وإنما ما ينكره الفريق الأول هو أن يكون
المستشرقون هم من ابتكروا علم تحقيق النصوص، فهم ينكرون حداثة العلم، ولا ينكرون
أسبقية المستشرقين في استخدام هذا العلم في إحياء التراث العربي تحديدًا.
فالدكتورة
عائشة عبد الرحمن التي قالت: "إن قواعد المنهج النقلي للرواية، لا تزال هي
عمدتنا في التوثيق للاطمئنان إلى صحة نسب المخطوط"([22])، هي
نفسها من قالت: "نقابل صنيع من اشتغلوا منَّا بنشر المخطوطات، منذ أواخر
القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين بصنيع المستشرقين فتروعنا المقابلة،
فأمانتهم في نقل النص يقابلها عندنا عبث بالنصوص، بتناولها بالحذف والإضافة
والتغيير، ودقتهم في مقابلة النسخ الخطية للنص، والتماس الأصالة فيه والتثبت من
صحة نسبها، يقابلها عندنا إغفال لذكر النسخة المنقول عنها، أو إخراج طبعات ملفَّقة
مرقَّعة تُنسب إلى المؤلف القديم دون أن يتصل به نسبها... وبدا واضحًا أن أكثر
القوم هنا لم يقصدوا إلى شيء من النشر العلمي، ولا عناهم أن يثقلوا على أنفسهم
ببعض أعبائه وتبعاته، ولا أن يضبطوا أقلامهم بشيء من نظمه ومناهجه، إنما أخذوا
النشر وسيلة ارتزاق فحسب"([23]). وبهذا فقد دخل علم
تحقيق النصوص طورًا جديدًا على أيدي المستشرقين.
مناهج علم التحقيق:
يقول الدكتور عبد الستار الحلوجي:
"مع بداية الاشتغال بالتحقيق لم يكن ثمة منهج معلوم يمكن أن يلتزم به
المحققون، وإنما كان لكل منهم طريقته ومنهجه، وقد استمدت بعض هذه الطرق من مناهج
العلماء المسلمين في توثيق النصوص وخاصة النصوص الشرعية، واستمد بعضها الآخر من
مناهج المستشرقين في نشر التراث القديم، ومع مرور السنين بدأت الخبرات تتراكم وبدأ
التفكير في تقنين هذه العملية ووضع الضوابط التي تحكمها"([24]).
فتحقيق التراث العربي لا يتمثل في مناهج وإنما هي مراحل مرت بها عملية التحقيق حتى
استقرت على ما هي عليه الآن، وهي:
المرحلة الأولى: "تمثلت في طبع
الكتاب اعتمادًا على نسخة واحدة، والاكتفاء بتصحيح النص دون دراسته أو التعريف
بمؤلفه أو التعرض لأصوله المخطوطة، ولم يكن لهذه المرحلة من فضل سوى إتاحة الكتاب
في عدد كبير من النسخ، ويمثلها مصححو مطبعة بولاق مثل نصر الهوريني والشيخ محمد
عبد الرحمن المعروف بقطة العدوي في أواخر القرن التاسع عشر"([25]).
المرحلة الثانية: "يمثلها
المستشرقون الذين طبقوا على النصوص العربية القواعد التي كانت معروفة عندهم في
تحقيق النصوص اليونانية واللاتينية، فاهتموا بمقابلة النسخ وإثبات الخلافات بينها،
كما اهتموا بضبط النص وترقيم سطوره وترجمته إلى لغاتهم، وفي مقابل ذلك قللوا من
أهمية توضيح النص أو التعليق عليه، ويمثل هذه المرحلة المستشرقان الفرنسيان بلاشير
وسوفاجيه"([26]).
المرحلة الثالثة: "تمثلت في جمع
النسخ ومقابلتها وإثبات الخلافات بينها، وشرح ما غمض من النص والتعريف بما ورد فيه
من مصطلحات، وإضافة مقدمة تترجم للمؤلف وتعرف بالكتاب وتبين أهميته في مجاله، كما
تذكر النسخ المخطوطة التي اعتمد عليها، وتذييل الكتاب بكشاف أو أكثر لتيسير الإفادة
منه"([27]).
إجراءات
عملية التحقيق:
تمر عملية التحقيق بإجراءات كثيرة
متتابعة، وهذه الإجراءات التي اتفق عليها أصحاب نظرية علم التحقيق في العصر الحديث
من العرب والمستشرقين تتم وفقًا لترتيب معين لا يجوز تغييره أو اختصاره؛ وهي([28]):
أولًا: اختيار النص: وهو الخطوة الأولى في
عملية التحقيق، ويستعين فيها المحقق بالإضافة إلى ثقافته الذاتية بالمصادر
والنشرات والببليوجرافيات ومراكز التحقيق. ويختار المحقق أولا الموضوع الذي يريد
البحث فيه وبالضرورة يكون في مجال تخصصه، ثم يختار النص، ويراعى في النص أسبقيته وأهميته في موضوع التخصص. وعند
الاختيار يُقدَّم النص الذي لم يحقق من قبل على النص المحقق، ثم يأتي النص المحقق
تحقيقًا غير علمي أو النص الذي تظهر له نسخ جديدة لم تصل للمحقق السابق، لأن
"كل نص تراثي منشور بتحقيق علمي محترم يقتضي تجديد الخدمة له، إذا اُكتشفت
منه نسخ أقدم وأوثق وأصح وأوفى، فالعمل جهاد مستمر متجدد إلى يوم القيامة"([29]).
ثانيًا: توثيق النص: وهو ثلاثة فروع كما ذكرها الأستاذ عبد
السلام هارون([30])،
وهي: توثيق العنوان، وتوثيق اسم المؤلف، وتوثيق نسبة الكتاب إلى مؤلفه، وهذا يسمى
التوثيق الخارجي للنص.
توثيق العنوان:
ويحتاج المحقق في توثيق العنوان للنص الذي لا يعرف مؤلفه أو لا يعرف عنوانه للرجوع
إلى "كتب المؤلفات كابن النديم أو كتب التراجم، أو أن يتاح له الظفر بطائفة
منسوبة من نصوص الكتاب متضمنة في كتاب آخر، أو يكون له إلف خاص أو خبرة خاصة
بأسلوب مؤلف من المؤلفين وأسماء ما ألف من الكتب"([31])، أما
النص الذي طُمس جزء من عنوانه فيمكن توثيقه بالرجوع إلى ثبت مؤلفات المؤلف وموضوع
كل منها، كما يجب التوثيق من عنوان النص لاحتمال تزييفه إما بقصد وإما عن جهل([32]).
توثيق اسم
المؤلف: وما ينطبق على العنوان ينطبق على اسم المؤلف، فعندما
يكون اسم المؤلف مفقودًا يُراجع المحقق "فهارس المكتبات، أو كتب المؤلفات، أو
كتب التراجم التي أُخرجت إخراجًا حديثًا وفهرست فيها الكتب، كمعجم الأدباء لياقوت
وإنباه الرواة للقفطي"([33]).
كما يجب مراعاة المادة العلمية للنص لتوافق حياة المؤلف العلمية، ذلك لأن عناوين
الكتب تتشابه بين المؤلفين. ومن الممكن أن يوثق المحقق اسم المؤلف من داخل النص
نفسه، عندما يعثر على مصطلحات توجهه إلى تعيين عصر المؤلف، كما يجب التثبت من عدم
تحريف أو تصحيف اسم المؤلف، فالنصري قد يكتب البصري، والحسن يكتب الحسين، وأيضًا
التثبت من عدم تزييف اسم المؤلف باسم مؤلف آخر([34]).
توثيق نسبة
الكتاب إلى مؤلفه: ويُعتمد في ذلك على الأعمال
الببليوجرافية لكتب المؤلفات والمؤلفين، مثل الفهرست، ومفتاح السعادة، وكشف
الظنون، وإيضاح المكنون، وهدية العارفين. ويقول الأستاذ عبد السلام هارون:
"إن الاعتبارات التاريخية من أقوى المقاييس في تصحيح نسبة الكتاب أو تزييفها،
فالكتاب الذي تحشد فيه أخبار تاريخية تالية لعصر مؤلفه الذي نسب إليه، جدير بأن
يسقط من حساب ذلك المؤلف"([35]).
ثالثًا: جمع النسخ ومقابلتها: يذكر الدكتور محمد
مندور ثلاثة أنواع من المخطوطات؛ وهي([36]):
1. تحريرات الكتاب المختلفة (Versions)، وهي التي يسميها
برجشتراسر الإبرازات، و"هي المرات المختلفة التي يظهر أو يبرز فيها
الكتاب"([37]).
2. مجموعات الكتاب المختلفة (Recensins)، ونعني بها تلك
الحالات التي لا يصل إلينا فيها الكتاب كما حرره مؤلفه، لأنه لم يكتبه هو بنفسه بل
ألفه شفويًا.
3. النسخ المختلفة (Copies)، وهذه من الواجب
أن نميز فيها بين ما هو بخط المؤلف وما هو بخط الناسخ، ونسخ النساخ نميز بين ما هو
منها نسخ التحريرات والمجموعات المختلفة وما هو نسخ واحد ثم تسلسلها تاريخًا ما
استطعنا.
ترتيب النُسخ:
هناك قواعد للمفاضلة والاختيار بين النسخ منها: أن النسخ الكاملة أفضل من النسخ
الناقصة، والواضحة أحسن من غير الواضحة، والقديمة أفضل من الحديثة، والنسخة التي
قوبلت بغيرها أحسن من التي لم تقابل، والقاعدتان الأخيرتان هما الأهم، فإن النسخة
التي قوبلت بغيرها نفيسة وقيمة، ويجب مراعاة أن لهذه القواعد شواذ([38]).
تسمية النسخ:
ومن الضروري تسمية النسخ التي يعتمد عليها في التحقيق كل نسخة برمز معين للتيسير،
ويقول برجشتراسر عن طرق ترميز نسخ المخطوطات في الغرب قبل أن يعرفها العرب
ويطبقونها: "القراء لم يعتادوا ذلك في الشرق، لأننا في نشر الكتب القديمة الأوربية
نقصد إلى الغاية القصوى من الإيجاز، فنستغنى عن الكلام ونكتفي بالرموز، ونجد فيها
كل حاجتنا"([39]).
مقابلة النسخ:
والمقابلة بين النسخ تكون بأصل واحد فقط، لأن المقابلة بأصول مختلفة قد تؤدي
للأخطاء، ويجب أن يكون الأصل- النسخة الأم- إما صورة شمسية وإما نسخة عن الأصل
قوبلت مقابلة مضبوطة([40]).
ويقسِّم برجشتراسر المقابلة إلى نوعين: مشافهة ومعاينة، فيقول: "الطريقة
الأولى مألوفة في الشرق، وهي أن يقرأ الواحد في النسخة الواحدة، على آخر يقابل في
نسخة أخرى، والمعاينة مألوفة في الغرب، وهي أن يقرأ الواحد قطعة من النسخة الواحدة
ويحفظها، ثم يقرأها في النسخة الثانية، وكل من هاتين الطريقتين تتفوق على الأخرى
من جهة: أما المشافهة فتتم بسرعة وتحول دون إسقاط كلمات، وأما المعاينة فهي أكثر
تدقيقًا من المشافهة وخصوصًا في الكتب العربية؛ لأن القارئ بصوت عال مضطر إلى
إضافة النقط والشكل من عنده، ولا يعرف السامع ما هو مروي أو غير مروي"([41]).
رابعًا: تحرير النص: وصلت إلينا المخطوطات
في صورة يصعب على القارئ العادي قراءتها وفهمها الفهم الصحيح، نظرًا لطبيعة الخط،
وعدم تشكيل الحروف، والتداخل بين السطور والفقرات، إلى غير ذلك من الصعوبات، وذلك
يستوجب أن يعيد المحقق تحرير النص في صورة جيدة يسهل معها عملية القراءة والفهم.
وتحرير النص وضبطه يحتاج لعدة أمور؛ وهي:
1. عنونة النص: "توضع
عناوين الكتب والأقسام والفصول العناوين الفرعية عند اللزوم، في متن النص وسط
الصفحة على سطر واحد أو عدة أسطر، تسبقها أرقامها الترتيبية الرومانية"([42]).
وإذا لم يكن النص معنونًا يضع المحقق العنوان المناسب للفصول والأبواب في عبارة
موجزة موضعها المتن بين قوسين أو الحاشية الجانبية دون قوسين.
2. تقسيم النص إلى فقرات([43]):
فيراعى أولا التقسيم الأصلي أو التقليدي للنص إلى كتب أو أقسام أو فصول، ويمكن عند
الحاجة تقسيم النصوص التي لم يرد فيها أصلا، ويمكن إعطاء التقسيمات المحدثة عناوين
توضع بين قائمتين([44]).
3. الضبط بالشكل: أهمية ضبط
الكلمات ترجع لإمكان القراءة على وجهها المراد، حيث "تضبط بالشكل ضبطًا كاملا
أبيات الشعر وآيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة والأمثال"([45])،
كما تضبط الأعلام وأسماء البلدان والقبائل ونحوها. ويقول الأستاذ عبد السلام
هارون: "إن أداء الضبط جزء من أداء النص، ففي بعض الكتب القديمة نجد أن النص
قد قيدت كلماته بضبط خاص، فهذا الضبط له حرمته وأمانته، وواجب المحقق أن يؤديه كما
وجده في النسخة الأم، وألا يغير هذا الضبط ولا يبدله، ففي ذلك عدوان على
المؤلف"([46]).
4. علامات الترقيم: يجب وضع علامات
الترقيم عند تحرير النص، من نقط وفواصل وأقواس وعلامات تنصيص وتعجب واستفهام.
5. العلامات والاختصارات: هناك علامات
اصطلاحية تتعلق بتحقيق النص؛ منها النقاط المتوالية للإشارة إلى المقاطع المحذوفة
من النص للإشارة إلى الفراغات بعدد مناسب لطول المقطع الناقص، ومنها علامة التحريف
التي تسبق كل موضع محرف تحريفًا واضحًا في المخطوطات وغير مصحح، وهي على شكل صليب
+، أو يحصر التحريف بين صليبين إذا كان هذا التحريف عدة كلمات([47]).
6. القرآن والحديث وأبيات الشعر: أما
الآيات القرآنية تثبت برسم المصحف العثماني وتوضع بين قوسين مزهرين أو أقواس
عزيزية، ويذكر بعدها ببنط أصغر بين قوسين معقوفين رقم الآية واسم السورة،
و"يجب أن يستشعر المحقق الحذر الكامل في تحقيق الآيات القرآنية وألا يركن إلى
أمانة غيره في ذلك مهما بلغ قدره"([48]).
وأما نصوص الحديث "فيجب أن تختبر بعرضها على مراجع الحديث، لقراءة نصها
وتخريجها عن أمكن التخريج، وتعدد روايات الحديث يدفعنا إلى أن نحمل المؤلف أمانة
روايته، فنبقيها كما كتبها المؤلف إذا وصلنا إلى يقين بأنه كتبها كذلك، ولندع
للتعليق ما يدل على ضعف روايته أو قوتها"([49]).
أما أبيات الشعر "فيوضع كل بيت بشطريه على سطر واحد، وتكون أوائل الشطور
وأواخرها مرصوفة عموديًا على صف واحد بصرامة"([50])،
"وفي الهامش الأيمن من النص المطبوع ترقم الأبيات بأرقام عربية صغيرة خمسة
خمسة في الدواوين، وثلاثة ثلاثة في الشواهد"([51]).
خامسًا: التعليق على النص: هناك منهجان في الشرح
والتعليق؛ الأول يتمثل في تقديم النص الأصلي والتستر وراءه، وينصر هذا المنهج د/
صلاح الدين المنجد([52])،
وما قاله مطابق لرأي المستشرقَين الفرنسيَين بلاشير وسوفاجيه، والثاني يتمثل في
الاسترسال شرحًا وتعليقًا، والاهتمام بعملية التحقيق كلها، وينصر هذا المنهج
الأستاذ عبد السلام هارون([53]).
فيقول الدكتور
صلاح الدين المنجد: "يجب قصر الحواشي على اختلاف النسخ أولا، ثم على ذكر
مصادر النص المذكورة أو التي يهتدي المحقق إليها، لأن ذكرها هو توكيد لصحة النص،
والتعليق على ما لا بد منه، ولسنا نميل إلى كثرة الشروح والتعليقات، فهذا عمل آخر
غير تحقيق النص"([54]).
وهو بذلك يسير على نهج المستشرقين وما قاله مطابق لرأي المستشرقَين الفرنسيَين
بلاشير وسوفاجيه.
أما الأستاذ عبد
السلام هارون فيقول: "لا ريب أن الكتب القديمة، بما تقتضيه من معارف قديمة،
محتاجة إلى توضيح يخفف ما بها من غموض، ويحمل إلى القارئ الثقة بما يقرأ
والاطمئنان إليه"([55]).
وبهذا يبرر عبد السلام هارون ضرورة أن يحتوي التعليق على أمور كثيرة، منها ربط
أجزاء الكتاب بعضها ببعض، والتعريف بالأعلام الغامضة أو المشتبهة وكذلك البلدان،
وتوضيح الإشارات التاريخية والأدبية والدينية... إلخ.
وهناك أيضًا طريقتان في المكان الذي
تُثبت فيه التعليقات؛ الأولى: وضع التعليقات في آخر الكتاب بعد نهاية المتن،
والثانية: وضعها في الصفحة نفسها مع المتن تباعًا.
سادسًا: تقديم النص: بعد طبع النص محققًا
يقوم المحقق بعمل مقدمة تتضمن الإشارة إلى عدة أمور([56])؛
وهي: أهمية الكتاب، وموضوعه، وترجمة المؤلِّف، والنسخ الخطية، ومنهج التحقيق.
سابعًا: الكشَّافات: يعرف الدكتور كمال
عرفات نبهان الكشاف Index بقوله "هو قائمة تشتمل على مداخل مقننة مرتبة ترتيبًا
منهجيًا، وهي توصل إلى الوحدات الدقيقة من المعلومات داخل نص معين أو عدة نصوص، مع
الإشارة إلى أماكن وجود المعلومات مثل الصفحات أو غيرها"([57]).
فالكشافات هي "القوائم التي تتضمن ترتيبًا نوعيًا للوحدات العلمية الصغرى"([58])،
ويتطلب تحقيق النص عددًا من الكشافات التي
يفضل أن تكون في آخر الجزء الأخير، وأهمها([59]):
كشاف الأعلام، وكشاف الكتب، وكشاف الشواهد الشعرية، وكشاف الأماكن، وكشاف اللغة.
ثامنًا: المراجع: تستوجب عملية التحقيق
توافر عدد من المراجع الرئيسة، منها ما يحتاج إليه المحقق قبل عملية التحقيق،
ومنها ما يستعين به أثناء تحقيق النص. ومن أهم المراجع
التي تسبق التحقيق "الأعمال الببليوجرافية" التي تعين المحقق على اختيار
المخطوط، وما نُشر وحُقق من المخطوطات، وأماكن نسخ المخطوط، ونسبة الكتاب لمؤلِفه.
أما ما يحتاجه المحقق من مراجع أثناء عملية التحقيق، فمنها([60]):
كتب المؤلف نفسه، وشروح الكتاب، والكتب التي استقى منها المؤلف، والمراجع
اللغوية... إلخ.
([28])
اعتمدت الدراسة في قواعد التحقيق على أوائل الكتب العربية والمترجمة التي أُلّفت
فيها وهي على الترتيب: أصول نقد النصوص ونشر الكتب للمستشرق الألماني برجشتراسر،
عن محاضرات ألقاها في الجامعة المصرية سنة 1932م. وقواعد تحقيق المخطوطات وترجمتها
للمستشرقين الفرنسيين بلاشير وسوفاجيه سنة 1945م. وتحقيق النصوص ونشرها لعبد
السلام هارون سنة 1954م. وقواعد تحقيق المخطوطات للدكتور صلاح الدين المنجد سنة
1955م. بالإضافة إلى بعض المراجع التي قد تضيف جديدًا لما أرساه هؤلاء.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق